فصل: فصل: (ما تضمنته شهادة الله تعالى):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: وَشَهَادَةُ الرَّبِّ وَبَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ يَكُونُ بِقَوْلِهِ تَارَةً وَبِفِعْلِهِ تَارَةً:

فَالْقَوْلُ هُوَ مَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَوْحَاهُ إلَى عِبَادِهِ كَمَا قَالَ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أنه لا إله إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاضْطِرَارِ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أَخْبَرُوا عَنْ الله أنه شَهِدَ وَيَشْهَدُ أن لا إله إلا هو بِقَوْلِهِ وَكَلَامِهِ؛ وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّ مَنْ بَلَّغَ عَنْهُ كَلَامَهُ وَلِهَذَا قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} وَأَمَّا شَهَادَتُهُ بِفِعْلِهِ فَهُوَ مَا نَصَبَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ الَّتِي تُعْلَمُ دَلَالَتُهَا بِالْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَبَرٌ عَنْ الله وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ يُبَيِّنُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ وَيُظْهِرُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْبِرِ بِهِ الشَّاهِدِ بِهِ كَمَا قِيلَ: سَلْ الْأَرْضَ مَنْ فَجَّرَ أَنْهَارَهَا وَغَرَسَ أَشْجَارَهَا وَأَخْرَجَ ثِمَارَهَا وَأَحْيَا نَبَاتَهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَوْضَحَ نَهَارَهَا؛ فَإِنْ لَمْ تُجِبْك حِوَارًا أَجَابَتْك اعْتِبَارًا. وَهُوَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ بِمَا جَعَلَهَا دَالَّةً عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ دَلَالَتَهَا إنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ لَهَا فَإِذَا كَانَتْ الْمَخْلُوقَاتُ دَالَّةً عَلَى أنه لا إله إلا هو وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَهَا دَالَّةً عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ دَلَالَتَهَا إنَّمَا هِيَ بِخَلْقِهِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ الشَّاهِدُ الْمُبَيِّنُ بِهَا أنه لا إله إلا هو وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْفِعْلِيَّةُ ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ. قَالَ ابْنُ كيسان: {شَهِدَ الله} بِتَدْبِيرِهِ الْعَجِيبِ وَأُمُورِهِ الْمُحْكَمَةِ عِنْدَ خَلْقِهِ أنه لا إله إلا هو.

.فصل: [في قوله تعالى: {قائما بالقسط}]:

وَقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: قِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنْ {شَهِدَ}: أَيْ شَهِدَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ. وَقِيلَ: مَنْ (هُوَ أَيْ لا إله إلا هو قَائِمًا بِالْقِسْطِ كَمَا يُقَالُ: لا إله إلا هو وَحْدَهُ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ.
وَقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ كِلَا الْعَامِلَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنَّ الْمَعْمُولَ الْوَاحِدَ يَعْمَلُ فِيهِ عَامِلَانِ كَمَا قَالُوا فِي قوله: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} و{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَسِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابِهِ يَجْعَلُونَ لِكُلِّ عَامِلٍ مَعْمُولًا وَيَقُولُونَ حُذِفَ مَعْمُولُ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَرْجَحُ كَمَا قَدْ بَسَطْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ فَقوله: {بِالْقِسْطِ} يَخْرُجُ عَلَى هَذَا إمَّا كَوْنُهُ يَشْهَدُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ؛ فَإِنَّ الْقَائِمَ بِالْقِسْطِ هُوَ الْقَائِمُ بِالْعَدْلِ كَمَا فِي قوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} فَالْقِيَامُ بِالْقِسْطِ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْعَدْلُ وَيَكُونُ فِي الْفِعْلِ. فَإِذَا قِيلَ: شَهِدَ {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} أَيْ: مُتَكَلِّمًا بِالْعَدْلِ مُخْبِرًا بِهِ آمِرًا بِهِ: كَانَ هَذَا تَحْقِيقًا لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَهَادَةَ عَدْلٍ وَقِسْطٍ وَهِيَ أَعْدَلُ مِنْ كُلِّ شَهَادَةٍ كَمَا أَنَّ الشِّرْكَ أَظْلَمُ مِنْ كُلِّ ظُلْمٍ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ أَعْظَمُ الشَّهَادَاتِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ فَذَكَرَ ابْنُ السَّائِبِ: أَنَّ حَبْرَيْنِ مِنْ أَحْبَارِ الشَّامِ قَدِمَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَبْصَرَا الْمَدِينَةَ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بِصِفَةِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَاهُ بِالصِّفَةِ فَقَالَا: أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَا: وَأَحْمَد؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَا: نَسْأَلُك عَنْ شَهَادَةٍ فَإِنْ أَخْبَرْتنَا بِهَا آمَنَّا بِك. فَقَالَ: «سَلَانِي». فَقَالَا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَمِ شَهَادَةٍ فِي كِتَابِ الله فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَلَفْظُ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ يَتَنَاوَلُ الْعَمَلَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: بشهد وَهُوَ قَائِلٌ بِالْقِسْطِ عَامِلٌ بِهِ لَا بِالظُّلْمِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَضَمَّنَتْ قَوْلًا وَعَمَلًا فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ أنه هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ فَيُعْبَدُ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَأَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَحْدَهُ هُمْ الْمُفْلِحُونَ السُّعَدَاءُ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِهِ فِي النَّارِ فَإِذَا شَهِدَ قَائِمًا بِالْعَدْلِ الْمُتَضَمِّنَ جَزَاءَ الْمُخْلَصِينَ بِالْجَنَّةِ وَجَزَاءَ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّارِ كَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ تَحْقِيقِ مُوجَبِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَكَانَ قوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} تَنْبِيهًا عَلَى جَزَاءِ الْمُخْلَصِينَ وَالْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمْ البغوي نَظْمُ الْآيَةِ شَهِدَ الله قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَمَعْنَى قوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} أَيْ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ قَائِمٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ أَيْ يُدَبِّرُهُ وَيَتَعَاهَدُ أَسْبَابَهُ وَقَائِمٌ بِحَقِّ فُلَانٍ أَيْ مُجَازٍ لَهُ فَالله تعالى مُدَبِّرٌ رَزَّاقٌ مُجَازٍ بِالْأَعْمَالِ. وَإِذَا اُعْتُبِرَ الْقِسْطُ فِي الْإِلَهِيَّةِ كَانَ الْمَعْنَى: لا إله إلا هو قَائِمًا بِالْقِسْطِ أَيْ هُوَ وَحْدَهُ الْإِلَهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ فَيَكُونُ وَحْدَهُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ مَعَ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ كَمَا يُقَالُ: أَشْهَدُ أن لا إله إلَّا الله إلَهًا وَاحِدًا أَحَدًا صَمَدًا وَهَذَا الْوَجْهُ أَرْجَحُ؛ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَأُولِي الْعِلْمِ يَشْهَدُونَ لَهُ مَعَ أنه لا إله إلا هو وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ.
والْوَجْهُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ كَمَا شَهِدَ بِهِ أَبْلَغَ مِنْ كَوْنِهِ حَالَ الشَّاهِدِ وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ يَتَضَمَّنُ أنه يَقُولُ الصِّدْقَ وَيَعْمَلُ بِالْعَدْلِ كَمَا قَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} وَقَالَ هُودٌ: {إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الله عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ.
وَقَالَ: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله لِنَفْسِهِ وَلِمَا يُشْرَكُ بِهِ مِنْ الأوثان كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} الْآيَةَ. وَقَالَ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} الْآيَاتِ. إلَى قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فَأَخْبَرَ أنه خَالِقٌ مُنْعِمٌ عَالِمٌ وَمَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا تُنْعِمُ بِشَيْءِ وَلَا تَعْلَمُ شَيْئًا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَيْتَةٌ فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَهَذَا؟ فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ الله مَعَ هَذَا الْفَرْقِ الَّذِي لَا فَرْقَ أَعْظَمَ مِنْهُ؟ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَالْإِفْكِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى الله خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} فَقوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَضَرَبَ الله مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} كِلَاهُمَا مَثَلٌ بَيَّنَ الله فِيهِ أنه لَا يَسْتَوِي هُوَ وَمَا يُشْرِكُونَ بِهِ كَمَا ذُكِرَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ لَكِنْ الْمُشْرِكُونَ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ مَخْلُوقَةٌ مَمْلُوكَةٌ لَهُ يُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. والْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ وَالِاعْتِدَالَ مُتَلَازِمَانِ فَمَنْ كَانَ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ بِالْقِسْطِ كَانَ مُسْتَقِيمًا وَمَنْ كَانَ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ مُسْتَقِيمًا كَانَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ. وَلِهَذَا أَمَرَنَا الله سُبْحَانَهُ أَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ؛ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ: مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَصِرَاطُهُمْ هُوَ الْعَدْلُ وَالْمِيزَانُ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ وَتَرْكُ مَعَاصِيهِ فَالْمَعَاصِي كُلُّهَا ظُلْمٌ مُنَاقِضٌ لِلْعَدْلِ مُخَالِفٌ لِلْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ. وَالله سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

.فصل: [قوله تعالى: {لا إله إلا هو العزيز الحكيم}]:

ثُمَّ قال تعالى: {لا إله إلا هو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}:
ذُكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أنه قَالَ: الأولى وَصْفٌ وَتَوْحِيدٌ وَالثَّانِيَةُ رَسْمٌ وَتَعْلِيمٌ. أَيْ قوله: {لا إله إلا هو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الأولى هُوَ ذَكَرَ أَنَّ الله شَهِدَ بِهَا فَقَالَ: {شَهِدَ الله أنه لا إله إلا هو} وَالتَّالِي لِلْقُرْآنِ إنَّمَا يَذْكُرُ أَنَّ الله شَهِدَ بِهَا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَهَادَةٌ مِنْ التَّالِي نَفْسِهِ بِهَا فَذَكَرَهَا الله مُجَرَّدَةً لِيَقُولَهَا التَّالِي فَيَكُونُ التَّالِي قَدْ شَهِدَ بِهَا أنه لا إله إلا هو. فَالْأُولَى خَبَرٌ عَنْ الله بِالتَّوْحِيدِ لِنَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ وَهَذِهِ خَبَرٌ عَنْ الله بِالتَّوْحِيدِ. وَخَتَمَهَا بِقوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَالْعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ وَالشِّدَّةَ وَالِامْتِنَاعَ وَالْغَلَبَةَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: عَزَّ يعز بِفَتْحِ الْعَيْنِ إذَا صُلِبَ وَعَزَّ يَعِزُّ بِكَسْرِهَا إذَا امْتَنَعَ وَعَزَّ يَعُزُّ بِضَمِّهَا إذَا غَلَبَ. فَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ قَوِيٌّ مَتِينٌ وَهُوَ مَنِيعٌ لَا يُنَالُ وَهُوَ غَالِبٌ لَا يُغْلَبُ. وَالْحَكِيمُ يَتَضَمَّنُ حُكْمُهُ وَعِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ فِيمَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرِ كَانَ حَسَنًا وَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرِ كَانَ صِدْقًا وَإِذَا أَرَادَ خَلْقَ شَيْءٍ كَانَ صَوَابًا فَهُوَ حَكِيمٌ فِي إرَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ.

.فصل: [الأصول التي تضمنتها الآية]:

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ: شَهَادَةَ أن لا إله إلَّا الله وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ فَتَضَمَّنَتْ وَحْدَانِيَّتَهُ الْمُنَافِيَةَ لِلشِّرْكِ وَتَضَمَّنَتْ عَدْلَهُ الْمُنَافِيَ لِلظُّلْمِ وَتَضَمَّنَتْ عِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ الْمُنَافِيَةَ لِلذُّلِّ وَالسَّفَهِ وَتَضَمَّنَتْ تَنْزِيهَهُ عَنْ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ فَفِيهَا إثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتُ الْعَدْلِ وَإِثْبَاتُ الْحِكْمَةِ وَإِثْبَاتُ الْقُدْرَةِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ قَدْ تَحْتَجُّ بِهَا عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا لَهُمْ؛ لَكِنَّ فِيهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى خُصُومِهِمْ الْجَبْرِيَّةِ أَتْبَاعِ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ؛ الَّذِينَ يَقُولُونَ: كُلُّ مَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فَهُوَ عَدْلٌ وَيَنْفُونَ الْحِكْمَةَ. فَيَقُولُونَ: يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لَهُمْ؛ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أنه لا إله إلا هو وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَهُمْ يُسَمُّونَ نَفْيَ الصِّفَاتِ تَوْحِيدًا؛ بَلْ الْإِلَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ مَحَبَّةِ الْمَعْبُودِ. وَالْمُشْرِكُونَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَ الله أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْدَادِهِمْ؛ فَعَلِمَ أَنَّ الله مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ لَمْ يَشْهَدْ فِي الْحَقِيقَةِ أن لا إله إلا هو. وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: إنَّ ذَاتَه لَا تُحَبُّ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ إلَهِيَّتَهُ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ مَقْرُونٌ بأنه لا إله إلا هو؛ فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى أنه لَا يُمَاثِلُهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ وَالْمُعْتَزِلَةُ تَجْعَلُ الْقِسْطَ مِنْهُ مِثْلَ الْقِسْطِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَمَا كَانَ عَدْلًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ كَانَ عَدْلًا مِنْ الْخَالِقِ وَهَذَا تَسْوِيَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؛ وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي أنه لا إله إلا هو. وَالْجَهْمِيَّة عِنْدَهُمْ أَيُّ شَيْءٍ أَمْكَنَ وُقُوعُهُ كَانَ قِسْطًا فَيَكُونُ قوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} كَلَامًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا مَدْحَ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ كُلُّ مَقْدُورٍ قِسْطًا كَانَ الْمَعْنَى أنه قَائِمٌ بِمَا يَفْعَلُهُ وَالْمَعْنَى أنه فَاعِلٌ لِمَا يَفْعَلُهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَدْحٌ وَلَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ؛ بَلْ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أنه يَقُومُ بِالْقِسْطِ لَا بِالظُّلْمِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ مُنَزَّهٌ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا كَمَا قَالَ: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} وَقَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ أن يكونوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وَقَالَ: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} فَهُوَ يَقُومُ عَلَيْهَا بِكَسْبِهَا لَا بِكَسْبِ غَيْرِهَا وَهَذَا مِنْ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ. وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} الْآيَةَ. وَأيضا فَمِنْ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ وَقِيَامِهِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ: أنه لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ كَمَا قَالَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} إلَى آخِرِهَا.
وَالْمُعْتَزِلَةُ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ الْعَظِيمَةَ الْكَثِيرَةَ بِكَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَتُحْبِطُ إيمَانَهُ وَتَوْحِيدَهُ بِمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ وَهَذَا مِمَّا تَفَرَّدُوا بِهِ مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي نَزَّهَ الله نَفْسَهُ عَنْهُ فَهُمْ يَنْسُبُونَ الله إلَى الظُّلْمِ لَا إلَى الْعَدْلِ. وَالله أَعْلَمُ.

.فصل: [إثبات العزة والحكمة لله تعالى]:

وَقوله: {هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} إثْبَاتٌ لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْجَبْرِيَّةَ- أَتْبَاعَ جَهْمٍ- لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ حِكْمَةٌ؛ وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ أَنْ تُفَسِّرَ حِكْمَتَهُ فَسَّرُوهَا إمَّا بِالْقُدْرَةِ وَإِمَّا بِالْعِلْمِ وَإِمَّا بِالْإِرَادَةِ. وَمَعْلُومٌ أنه لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إثْبَاتٌ لِحِكْمَتِهِ فَإِنَّ الْقَادِرَ وَالْعَالِمَ وَالْمُرِيدَ قَدْ يَكُونُ حَكِيمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ وَالْحِكْمَةُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الله لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَيَقُولُونَ أيضا: الْفِعْلُ لِغَرَضِ إنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ وَيَتَضَرَّرُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَلْتَذُّ؛ وَذَلِكَ يُنْفَى عَنْ الله. وَالْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتُوا أنه يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ. وَسَمَّوْا ذَلِكَ غَرَضًا: هُمْ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُثْبِتَةِ؛ لَكِنْ قَالُوا: الْحِكْمَةُ أَمْرٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَا يَقُومُ بِهِ كَمَا قَالُوا فِي كَلَامِهِ وَإِرَادَتِهِ؛ فَاسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ الْمُجْبِرَةُ بِذَلِكَ فَقَالُوا: الْحَكِيمُ مَنْ يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ تَعُودُ إلَى نَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ تَعُدْ إلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ حَكِيمًا؛ بَلْ كَانَ سَفِيهًا. فَيُقَالُ لِلْمُجْبِرَةِ: مَا نَفَيْتُمْ بِهِ الْحِكْمَةَ هُوَ بِعَيْنِهِ حُجَّةُ مَنْ نَفَى الْإِرَادَةَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ قَالُوا: الْإِرَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ يَنْتَفِعُ وَيَتَضَرَّرُ وَيَتَأَلَّمُ وَيَلْتَذُّ وَإِثْبَاتُ إرَادَةٍ بِدُونِ هَذَا لَا يُعْقَلُ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: نَحْنُ مُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى إثْبَاتِ الْإِرَادَةِ فَمَا كَانَ جَوَابًا لَكُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَهُوَ جَوَابُ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَكُمْ حَيْثُ أَثْبَتُّمْ إرَادَةً بِلَا حِكْمَةٍ يُرَادُ الْفِعْلُ لَهَا. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ مَا فِي لَفْظِ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْمُجْمَلَةِ. وَالله أَعْلَمُ.

.فصل: [شهادة أولي العلم لله بالوحدانية]:

وَإِثْبَاتُ شَهَادَةِ أُولِي الْعِلْمِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَهُ بالوحدانية يَشْهَدُ بِهَا لَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ يَشْهَدُونَ أن لا إله إلَّا الله وَيَشْهَدُونَ بِمَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ.
وَزَعَمَ طَائِفَةٌ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ أنه لَا يُوَحِّدُ أَحَدٌ الله وَأَنْشَدُوا:
مَا وَحَّدَ الْوَاحِدُ مِنْ واحد ** إذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جاحد

وَهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ يَدَّعُونَ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ أن يكون الْمُوَحِّدُ هُوَ الْمُوَحَّدَ؛ فَيَكُونُ الْحَقُّ هُوَ النَّاطِقُ عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ وَالله الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ لَا الْعَبْدُ. وَهَذَا فِي زَعْمِهِمْ هُوَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ الْحَلَّاجُ يَعْتَقِدُهُ وَهُوَ بِزَعْمِهِمْ قَوْلُ خَوَاصِّ الْعَارِفِينَ؛ لَكِنْ لَا يُصَرِّحُونَ بِهِ. وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا فِي عُمُومِ الصَّالِحِينَ مَا اعْتَقَدَتْهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ؛ لَكِنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ إظْهَارُهُ؛ فَإِنَّ دِينَ الإسلام يُنَاقِضُ ذَلِكَ مُنَاقِضَةً ظَاهِرَةً فَصَارُوا يُشِيرُونَ إلَيْهِ وَيَقُولُونَ: أنه مِنْ السِّرِّ الْمَكْتُومِ وَمِنْ عِلْمِ الْأَسْرَارِ الْغَيْبِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُبَاحَ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ مُلْحِدٍ وَهُوَ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى فَإِنَّ النَّصَارَى إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي الْمَسِيحِ لَمْ يَقُولُوهُ فِي جَمِيعِ الصَّالِحِينَ. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ إذْ الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أُصُولِ الإيمان وَالتَّوْحِيدِ وَإِبْطَالُ قَوْلِ الْمُبْتَدِعِينَ.

.فصل: [ما تضمنته شهادة الله تعالى]:

وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الله تَتَضَمَّنُ بَيَانَهُ لِلْعِبَادِ وَدَلَالَتَهُ لَهُمْ وَتَعْرِيفَهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَلابد أَنْ يُعَرِّفَهُمْ أنه شَهِدَ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ أَعْظَمُ الشَّهَادَاتِ وَإِلَّا فَلَوْ شَهِدَ شَهَادَةً لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْعِلْمِ بِهَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ كَمَا أَنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لَمْ يُبَيِّنْهَا بَلْ كَتَمَهَا لَمْ يَنْتَفِعْ أَحَدٌ بِهَا وَلَمْ تَقُمْ بِهَا حُجَّةٌ. وَلِهَذَا ذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَتَمَ الْعِلْمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الشَّهَادَةِ كَمَا قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ الله} أَيْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ مِنْ الله وَكَتَمَهَا وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي بَيَّنَهُ الله فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنْ الله وَشَهَادَةٌ مِنْهُ بِمَا فِيهِ. وَقَدْ ذَمَّ مَنْ كَتَمَهُ كَمَا كَتَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْخَبَرِ وَالشَّهَادَةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَكَتَمُوا إسْلَامَهُمْ وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الأخبار بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِصِفَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}. وَقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَالشَّهَادَةُ لابد فِيهَا مِنْ عِلْمِ الشَّاهِدِ وَصِدْقِهِ وَبَيَانِهِ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الشَّهَادَةِ إلَّا بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ مَنْ يَكْتُمُ وَيُحَرِّفُ فَقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا».